إدراك أسباب تراجع الامة September 19, 2018 – Posted in: Uncategorized

خالد الأنشاصي  

في كتاب يسعى لتوضيح الالتباسات التي أدت إلى تراجع الأمة
راشد شاز: تخلينا عن قيادة العالم بسبب التفسيرات المضللة للقرآن الكريم

علينا أن نضع أيدينا على منهجية يحاول من خلالها كل عصر أن يخلق عهد النبي من جديد
الأمة شعرت بأنها ضلت الطريق عندما حجب نور الوحي الإلهي وراء غيمات الخرافات والتقليد الأعمى
المؤلف يرى أن دخول السنة بمعنى الحديث كمصدر من مصادر الشريعة قد مهد الطريق لإبطال القرآن لا للعمل به
الحكم بأن علم السلف قاطع ونهائي جعل المجتمع الإسلامي محكوماً بعلماء أموات بدلاً من أن يحكمه مفكرون أحياء
تراجع الأمة الإسلامية كان نتيجة لما جنته أيدي المسلمين ولم يكن حكماً نهائياً ولو كان الأمر كذلك لسمعنا بقدوم نبي آخر
أفعال اليهود في كتابهم المقدس هي ذاتها ما قام به بعض المسلمين فحولوا القرآن من كتاب مقدس إلى كتاب أماني

* الكتاب: إدراك أسباب تراجع الأمة (المجلد الأول)
* المؤلف: راشد شاز
* الناشر: دار الحكمة – لندن

يحاول الكاتب والمفكر الهندي راشد شاز في هذا الكتاب إعادة بناء الفكر الإسلامي، عبر إحياء مسار خالد من الفكر الإسلامي المتجدد يعيد للأمة الإسلامية الريادة العالمية التي فقدتها وانخرطت في عصور من التراجع، لا سبيل إلى الخروج منها إلاّ بالعودة إلى صحيح الدين – بحسب رؤيته – ومن ثم كان هذا الكتاب الثري الذي ناقش بعمق العديد من المسائل الإسلامية الخلافية، متوصلاً إلى آراء قد يتفق معها البعض وقد يختلف معها البعض، ولكنها تبقى في النهاية محاولة جادة للوقوف على أسباب تراجع الأمة الإسلامية، انطلاقاً من غاية حميدة، تؤسس لها الغيرة على الدين الإسلامي الحنيف، وإرادة أن يعود الإسلام إلى عهده الأول نقياً خالصاً مما شابه من بعض الخرافات والإسرائيليات وتقديس غير المقدس.
يقول المؤلف: هذا الكتاب ما هو إلاّ محاولة لفهم ظواهر عملية تاريخية؛ أي كيف حظيت متعلقات الوحي بأهمية ومكانة فوق الوحي نفسه لدرجة أصبح معها الإسلام الحنيف ما هو إلاّ مجرد هوية، فالكتاب الذي يبدأ بإثبات أنه (هدى للمتقين)، يبدو من خلال التفسيرات الفقهية لهذه الآية، أنه يغلق الباب أمام المتقين من أهل الثقافات الأخرى. وسرعان ما وقفت الأمة المسلمة الخالدة التي شرفها الله بمنصب قيادة العالم فريسة لسيكولوجية الفرقة المحمدية، وكان ذلك من عواقب التفسير الفقهي الخالص للقرآن الكريم واعتباره جوهر الدين؛ فبالإعراض عن مشاكل العالم والتخلي عن فلاح البشرية، بدأنا نركز اهتمامنا على هوية ثقافية معينة لأمة قدر لها أن تكون مسلمة؛ حتى إن فقهاءنا قد قسموا العالم إلى دار للإسلام وأخرى للكفر مما قد يعطي الانطباع بأنه ليس لنا علاقة بتلك المناطق الأخرى التي ليس فيها سكان مسلمون. ويرجع السبب في تخلينا عن مسؤولية قيادة العالم في الحقيقة إلى بعض التفسيرات المضللة للقرآن، ومع تقدم الزمان يزداد جهلنا بالقرآن، وإذا لم نتدارك أخطاءنا السابقة، فإن كل خطوة إلى الأمام سوف تحدث مزيداً من الالتباسات. وما نحتاج إليه الآن هو أن نخرج من دوامة الشر التي هوينا فيها.

تقصي الأسباب ليس كافياً
الكتاب الذي جاء في 578 صفحة من القطع الكبير، اشتمل على ستة أبواب تناول الأول والثاني منها “التعرف على المشكلة.. قضايا ومناقشات أساسية”، و”فهم أسباب التراجع”، وفيهما يقرر المؤلف أن الحالة المتداعية للأمة الإسلامية التي يمكن أن يرجع السبب فيها إلى تخليها عن موقع السيادة السياسية ليست مشكلة جماعية أو وحدوية بسيطة فحسب، ولكنها تتخذ أبعاد أية مشكلة عالمية عندما ينظر إليها من وجهة نظر حاملي راية النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، فمستقبل الشعوب مرتبط بذلك. وإذا كانت آخر الأمم ميراثاً لرسالة الله قد ارتضت، لأي سبب من الأسباب، بأن يكون دورها ثانوياً في الأمور التي تتعلق بشؤون العالم، وليس هناك من سبيل يعيدها إلى مكانتها المحورية، أو سيادتها السابقة، فإن ذلك يعني بوضوح أن التاريخ قد وصل إلى نهاية المطاف، وأن الحياة البشرية قد فقدت معناها.
ويؤكد المؤلف أن مجرد تقصي أسباب تدهور الأمة لا يعد أمراً كافياً بالنسبة لنا، إذ يجب علينا أن نضع أيدينا على منهجية، يحاول من خلالها كل عصر أن يخلق عهد النبي من جديد، فإذا ما نجحنا في ذلك، فإن التحدي التالي الذي سيواجهنا سيكون متعلقاً بالحفاظ عليه من الانهيار والتحريف، وهو الأمر الذي لم يفعله أسلافنا. ولو كان الأمر ممكنا – كما يقول المؤلف – فيجب علينا أن نحاول حمايته مما قد ترتكبه الأجيال القادمة من أخطاء. وبعبارة أخرى علينا أن نبتكر في أفكارنا حتى لا تشعر الأجيال القادمة بحاجة إلى الانحراف عن هذا الفكر، ولن يتحقق هذا إلاّ إذا امتنعنا عن جعل كتاباتنا مجرد امتداد لإسهامات أسلافنا السابقة، وإحياء مثل هذه الرؤية لن يكون ممكنا إلاّ إذا استطعنا النظر إلى الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة بعيداً عن قيود زمانهم ومكانهم.

المصادر اليهودية في فهم القرآن

ويرى المؤلف أن الاستعانة بالمصادر اليهودية في فهم القرآن الكريم، وتدخل طرق الفهم اليهودية فيه قد أضفى مزيداً من التعقيد، بل وبدأ المسلمون كذلك في عرض اتجاه يصور القرآن الكريم كما هو موجود في الروايات اليهودية، ويضرب المؤلف مثالاً لذلك بترسخ الاعتقاد بين المسلمين، كما هو الحال بين اليهود، أن النسخة الحقيقية للقرآن – مثله مثل التوراة – محفوظة في السماوات، فنرى – والقول للمؤلف – أنه من خلال الوصف الذي تقدمه سورة البروج عن أن القرآن الكريم محفوظ في “اللوح المحفوظ” في قوله تعالى: “بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ”، استنبط العلماء أن اللوح المحفوظ يوجد في مكان ما في السماوات، رغم أنه لا يوجد مجال لمثل هذا الحدس في الآية، ولم يرد ذكر أي شيء عنه في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم. ويستطرد المؤلف بالقول “فليس هناك معنى آخر للوح المحفوظ يستثني حقيقة أن القرآن الكريم كان يتنزل في فترة اشتهرت فيها الكتابة بأنها فن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب القرآن بنفسه، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يؤمرون بقراءة القرآن بأعينهم والعمل على تعليمه ومدارسته من خلال الرقاع المكتوبة، وهذا أفضل من مجرد الخطاب الشفهي. وقد تناقلت النسخ المكتوبة من الوحي الإلهي بين الناس، أضف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوخى الحذر إزاء ذلك، فإلى جانب حفظه لآيات القرآن عن ظهر قلب، وجعل صحابته أيضاً يحفظونه في صدورهم، أعد ترتيباً خاصاً لكتابة وتدوين آيات القرآن، ووضع علامات مميزة ينبغي استخدامها. والحقيقة التي يقرها التاريخ، أنه قبل أن يلحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، قام بجمع القرآن في شكل رقاع مجزأة، وكانت هذه أول مرة يشهد فيها تاريخ الإنسانية مثل هذه العملية الشاملة والمحكمة، تلك العملية التي تضمنت التعليم، والتعلم، والحفظ، والتلاوة، والتحرير، والإملاء وغيرها، والتي كانت تهدف إلى حماية الوحي الإلهي والحفاظ عليه”.

إشكالية قطعية علم السلف

ويشير المؤلف إلى مسألة شديدة الأهمية حينما يرى أن إحدى نتائج إخضاع الوحي الإلهي للفهم البشري وللمناقشات الفقهية هي أن الوحي الإلهي الذي حدد في الماضي العلاقة بين الإنسان وربه وأضاء الطريق إلى المستقبل قد تحول إلى تراث ثقافي جامد لا روح فيه. وترتب على الاعتقاد بأن علم السلف قاطع ونهائي، ولا سيما الأئمة الأربعة – كما يقول المؤلف – “أن المجتمع الإسلامي بدلاً من أن يحكمه مفكرون أحياء يحكمه الآن علماء أموات، والذين رغم ما كانوا عليه من معرفة واسعة وعمق في التفكير، إلاّ أنهم لم يكونوا قادرين على بحث الحاضر واستقراء المستقبل. وهكذا تجمدت عظمة الوحي الإلهي وأصبح فريسة لشعائر جامدة بلا روح، وعندما حجب نور الوحي الإلهي وراء غيمات الخرافات والتقليد الأعمى، كان من الطبيعي أن تشعر الأمة بأنها ضلت الطريق”.
ويرى المؤلف أن الأفعال التي قام بها اليهود في كتابهم المقدس هي ذاتها التي قام بها بعض المسلمين حيال القرآن الكريم إذ يقول: بما أننا خير وآخر أمة أخرجت للناس، فإن الوحي القرآني يمثل كنزاً نفيساً بالنسبة لنا، ولكن مع الأسف وقفت الآثام التي اقترفناها حجاباً حائلاً بيننا وبين الوحي الإلهي، الأمر الذي جعل القرآن يتحول عندنا من أن يكون كتاب الهدى والرشاد إلى كتاب أماني. وقد قيل إن كل كلمة في القرآن تعتبر في حد ذاتها لفظاً باعثاً للبركة، فتلاوته أو سماعه، والنظر إليه، سواء مع فهم معانيها ودلالاتها أم عدم فهمها، تكون باعث خير وبركة، وهناك بعض السور والآيات التي لها أفضلية خاصة، وتلاوة هذه السور والآيات مرة بعد مرة تزيح الهم والكرب في الحياة الدنيا، والفوز في الآخرة، وعموماً هذه هي الأفعال التي فعلها اليهود بكتابهم المقدس، فقد أخبرهم الربابنة اليهود بأن المرء الذي يسمع كلمة من التوراة ولو لمرة واحدة، لن تمس جسده النار، والأكثر من ذلك أنه إذا ما أظهر اليهودي حتى قدراً من الاحترام للربابنة وتابعيهم، فإن ذلك ضماناً كافياً لدخول الجنة، ثم تطورت هذه الفكرة إلى الادعاء بأن شفاعة إبراهيم عليه السلام يوم القيامة سوف تخلص جميع بني إسرائيل المختونين من عذاب نار جهنم، وقد أفضى مثل هذا النوع من العبارات إلى اقتصار فضائل الرسالات السماوية على مجرد الحصول على بعض البركات، وقد ركز الناس فقط على الشكل الخارجي للوحي الإلهي، سواء تلاوته أو شكل الخط المكتوب به، وكما هو الحال بين اليهود، قام المسلمون كذلك بكتابة القرآن الكريم باستخدام خط يدوي رائع الجمال فوق صفحات مزخرفة. فهم من ناحية قد ابتعدوا عن مضمون المعاني الحقيقية وذلك باقتضاب فضائل الوحي الإلهي إلى مجرد الحصول على النعم والبركات، ومن ناحية أخرى، كانت تلك محاولة لغرس الاعتقاد بين الناس بأنه ليس كل إنسان يملك القدرة على اقتطاف ثمرات الرسالات السماوية.
أما الأبواب الثالث والرابع والخامس والسادس فتناول المؤلف خلالها الوحي الإلهي، إذ رآه في الباب الثالث أسيراً للتفاسير، من خلال مناقشة مسألة ترتيب سور القرآن الكريم في المصحف العثماني، بل وترتيب الآيات داخل السورة الواحدة، ثم مسألة الناسخ والمنسوخ، وفهم الوحي الإلهي من منظور النصوص السماوية السابقة.

البحث عن الوحي غير المتلو

وفي الباب الرابع يناقش المؤلف ما رآه نتيجة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “أوتيت القرآن ومثله معه”، تلك النتيجة المتمثلة في البحث عن الوحي غير المتلو في مصادر ونصوص يرى المؤلف أنها غالباً ما كانت متضاربة ومتناقضة، ومن ثم يؤكد أنه بمجرد قبول التاريخ كمصدر مسلم به في البحث عن السنة، فإن ذلك مهد الطريق لتوطيد الفكر الإسلامي المشوه، والذي كان للأحاديث الموضوعة دور حيوي في وجوده.
يقول المؤلف: ولأني لا أعتزم عرض تاريخ مفصل لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الصفحات، ولكني أود فقط أن أميط اللثام عن الانحراف الذي تسلل إلى فكرنا في المسائل المتعلقة بالوحي بسبب تبدل المفهوم القرآني للتاريخ. وهذا هو السبب الذي سيجعلنا نقصر مناقشتنا هنا على العوامل التي أسهمت في إحاطة التاريخ والأحاديث النبوية بهالة من القدسية. وإذا كنا قد بدأنا، كما فعل بنو إسرائيل، في النظر إلى التاريخ على أنه وسيلة موثوق بها لفهم وتفسير الوحي، إذاً فما هي أسباب وقوع مثل هذا الخطأ؟ إن الرعيل الأول من المسلمين في محاولتهم لمنع ظهور مشناة في الدين الإسلامي قد حددوا نطاق التاريخ ووضعوه تحت رقابة صارمة. وأتساءل: لماذا لم تطبق هذه الرقابة في السنوات التالية؟ وإذا كان عامة الناس قد حدث عندهم سوء فهم في هذا الصدد. فما هي أسباب ذلك؟ وما هي أسباب ظهور فكرة أن التاريخ هو المصدر الأصلي للسنة النبوية أو فكرة أن السنة هي جمع لأقوال وآثار الرسول صلى الله عليه وسلم التي ليست بقرآن؟ وأهم هذه التساؤلات هي: لماذا تساوى النموذج النبوي بالسنة التي بدأ الناس في استنباطها من المصنفات التي تحتوي على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم؟ وفي أي مرحلة من مراحل التاريخ اعتبرت السنة مرادفة للحديث؟. إن انتقالنا من فكرة الأسوة النبوية للسنة، ومن السنة للحديث يسجل ذلك التحول الجذري في مفهومنا للتاريخ، ذلك التحول الذي إذا لم ندرك كنهه، سنقف عاجزين عن عمل تقييم مناسب للنموذج النبوي، أو حتى الإشارة إلى مصادره الصحيحة. وكما أنه من غير الممكن أن نتقدم خطوة واحدة دون النموذج النبوي، كذلك فإن أقل خطأ في تحديد مصدر هذا النموذج يمكن أن يبعدنا عن مصدر الهدي الذي نعتبره أصح مظاهر الوحي السماوي الخاتم. وبناء على ذلك، فليس من الصعب المفاضلة بين التاريخ والوحي في بحثنا عن النموذج النبوي، وذلك لإجماع الكل على ترجيح الوحي الإلهي، لكن المشكلة التي تبرز أمامنا في الحقيقة تبرز عندما يقدم التاريخ على أنه مصدر إضافي أو أداة مفسرة للوحي. ويكمن جوهر المشكلة في أن التاريخ لا يمكن رفضه كلية، كما أن عملية قبوله كأداة للتفسير مسألة محفوفة بالمخاطر في نفس الوقت. ولو كان المسلمون الأوائل قد حاولوا حصر التاريخ داخل نطاق محدد له بدلا من رفضه كلية، لكان ذلك كان قرارا حصيفا. إن الحقيقة تتمثل دون اللجوء إلى المعادلة المعقدة بين التاريخ والوحي، في أن أمر التخلص من تلك الأفكار الخاطئة التي تأصلت بيننا فيما يتعلق بالنموذج النبوي لن يكون أمراً سهلاً.

الدين مقابل الفقه

ويناقش المؤلف في الباب الخامس ما أسماه “الدين مقابل الفقه.. الوحي الإلهي رهين التأملات الفقهية” قائلاً “إن الدين إذا ما تحول إلى مجموعة من الأحكام الفقهية، فسوف تنفي هذه الأحكام الدين ذاته”. وفي إطار حرص المؤلف على الدين الصحيح وتخليصه مما قد يشوبه من معتقدات وعادات خاطئة، يرى المؤلف أن التحزب الذي قادته المدارس الفقهية المختلفة أفسد مناخ المجتمع المسلم، فذهب أصحاب أحد هذه المذاهب إلى اعتبار أن تكفير أتباع المذاهب الأخرى هو أحد الواجبات الدينية، وكانت مثل هذه الاتهامات يوجهها أتباع هذه المذاهب إلى بعضهم البعض من فوق المنابر، حتى بلغ الأمر مبلغه لدرجة أن هذه المواجهات كانت تتحول أحياناً إلى مواجهات دامية تودي بحياة العديد من الناس، وفي ذلك ما اعتبره المؤلف نتيجة لوضع الفقه في مقابل الوحي، لدرجة خلقت حالة من التقديس الأعمى – كما يقول المؤلف – للأئمة الأربعة، كادت توصل البعض إلى حالة من الاعتقاد أسماها المؤلف “شرك النبوة”.
يقول المؤلف: “إن دخول السنة بمعنى الحديث كمصدر من مصادر الشريعة قد مهد الطريق لإبطال القرآن لا للعمل به، لدرجة أنه عندما ظهر الفقه للناس كفرع من فروع المعرفة لم يكن هناك أحد من الناس يبدي قبولا للعمل بالأحاديث إلا عندما وجدوا منها عونا على تفسير القرآن الكريم وتوضيحه، إلا أن هذا الاتجاه لم يلق رواجا عند علماء الحديث، وقد تناول الشافعي في كتابه الأم هذه الطائفة تفصيلا ورأى أنها قد ردت الحديث إجمالا. وكان مبنى رأي هذه الطائفة أنه ليس من حق أحد أن يفرق بين الأفعال والواجبات التي فرضها الله تعالى، زاعما أن بعضها (عام) وبعضها (خاص) من حيث التطبيق، أو بعضها (واجب) والبعض الآخر (مستحب)، فإن مثل هذه التفريقات الدقيقة حول القضايا التي حسمها القرآن نشأت أساسا من هذه الروايات، فالإمام الشافعي الذي يميل إلى استنباط الأحكام الفقهية من الروايات أكثر من ميله لأعمال الرأي وعلم الكلام يلغي مطلقا فكرة قبول أي نقاش فكري حول حجية الحديث، فهو يرى أن من يقولون بقبول الأحاديث التي شهد لصحتها القرآن فقط هم المنكرون لحجية الحديث، بل إنه ذهب للقول بأن من يرفضون التفرقة بين العام والخاص أو الناسخ والمنسوخ هم أيضا مخطئون. لقد قامت الخلافات بين العلماء منذ البداية حول مكانة أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله كمصدر من مصادر الشريعة، كما نجد في تاريخ الفكر الإسلامي أيضا جماعات أو مدارس عديدة تؤيد آراء مختلفة حول مفهوم التاريخ من وجهة نظرهم على الرغم من أن تيارات الفكر التي شاعت بين الطوائف الثلاث، أهل الرأي وأهل الكلام وأهل الحديث، غالبا ما كانت تبدو متداخلة إلا أن المرء يستطيع أيضا أن يرى اتجاهاتهم غير المعلنة والمستقلة، فإذا كانت الطائفة التي تنتمي لأهل الحديث قد عرف عنها إفراطها في الميل للحديث وما له من مكانة مستقلة كمصدر من مصادر الشريعة، فإن أهل الرأي يميلون إلى الاعتماد على فهمهم للدين في البت في المسائل الدينية أكثر من اعتمادهم على الروايات الضعيفة، بينما يرى أهل الكلام أنه أيا كان الحديث أو الحكم فإنه يشترط للقول بصحته أن يكون مقبولا عقلا ومتوافقا مع النظام الأساسي للإسلام.
لم يرد أي من هذه الطوائف الحديث مطلقا ولم ينصرفوا للقول بأن هذه الأحاديث هي أدوات تاريخية أو تفسيرية، وإنما نشأ الخلاف بينهم حول مكانتها كمصدر من مصادر الشريعة. أما أولئك الذين أفرطوا في الاتجاه إلى الحديث واعتقدوا أن الإنسان بدون الحديث لن يكن بمقدوره أن يحدد حتى عدد الركعات في صلاة الفرض ليسوا في الحقيقة إلا ضحايا لاضطراب هائل أحدثوه بين الأحاديث والسنة المتواترة، وكان الشافعي أول من صاغ مصطلحات يحدد من خلالها مجال كل منها، أي: الحديث والسنة المتواترة. فهو يرى أنه علم يبحث في الأدلة القرآنية والأحاديث المجمع على صحتها بالإضافة إلى إجماع الأمة، فهو مثلا يؤكد ثبوت الظهر بأربع ركعات بناء على هذا المبدأ لأنه يرى إجماع الأدلة القرآنية والأحاديث، وكذلك إجماع الأمة على هذا العدد من الركعات. ونظرا لاعتماد العلماء على الحديث والروايات فقد ظهرت الحاجة إلى علم الجرح والتعديل، وكان هذا هو السبب في ظهور مصطلحات جديدة في علم الحديث. لقد قام المحدثون، اعتمادا على ما لديهم من أهداف ورؤى، بالتأكيد على القول إن بعض الأحاديث صحيحة وبعضها حسن وبعضها الآخر ضعيف، فلم يكن أحد من أهل الرأي أو أهل الحديث ليعترف بما ترويه الجماعة الأخرى من أحاديث، ولم تعترف الشيعة إلا بالأحاديث التي رويت عن طريق الأئمة المعصومين. أما الخوارج فيقولون بصحة الأحاديث التي دونت قبل وقوع الفتنة (انعقاد الفتنة). وعلى الجانب الآخر، يؤكد أهل الحديث على أن خبر الآحاد حتى ولو رواه راو واحد ينبغي أن يرجع إليه كمصدر من مصادر الشريعة إذا كان راويه عادلا. بينما يرى بعض الفقهاء وجهة نظر كان مفادها أن الأحاديث كما كانت تعد (روايات بالمعنى) في صياغتها لأحكام الشريعة فإن قبولهم للأحاديث جاء مقصورا على الروايات التي جاءت عن طريق رواة قادرين على إدراك المعنى والتأكيد على الألفاظ التي يستخدمونها في عرضهم للحديث، وبتعبير آخر أولئك الذين كانت لهم عقلية فقهية.

المفهوم التصوفي للدين

ويختتم المؤلف كتابه بالباب السادس “الإسلام والتصوف.. إحاطة الوحي بسياج من الفقه الباطني”، وفيه يرى المؤلف أن المفهوم التصوفي للدين مفهوم غريب عن الإسلام تسلل إليه عن طريق المغالاة في العبادة، وأن ظهور التصوف في الإسلام يعد عملاً متجرئاً، وأنه ما كان ليتم دون أن يكتنفه قدر من سوء النية تجاه الدين، ولا كان لهذا البناء المحكم للتصوف أن ترتفع أعمدته دون تلك العقول المتآمرة التي اجتمعت على الكيد للإسلام- على حد تعبير المؤلف.
ويشير المؤلف في خاتمة كتابه إلى أن تراجع اليهود كان أمراً مقدراً، وأن الأمة الإسلامية احتلت بعده منصب السيادة، وعلى الرغم من ذلك يقول المؤلف: “ضاعت هذه المكانة من أيدي المسلمين بسبب تقصيرهم وغلوهم في الدين، لقد كان تراجعهم نتيجة لما جنته أيديهم ولم يكن حكماً نهائياً، ولو كان الأمر كذلك لسمعنا بقدوم نبي آخر، أي إن وقف هذا التراجع الحالي في الأمة المسلمة سوف يكون أمراً ممكناً….، فإن نور الوحي الإلهي بإمكانه أن ينير لنا السبيل مرة أخرى شريطة أن نستجمع شجاعتنا ونتخذه نموذجاً عملياً نسير على هديه في مختلف نواحي الحياة بدلاً من أن نتخذه تعويذة مقدسة. ولابد أن نعترف بأنه بعد قرون من التدهور والتخبط يصبح تحقيق هذه المهمة أمراً صعباً خاصة على أولئك الذين يرزحون تحت وهم اتباع أسلافنا”.
الكتاب على الرغم مما اشتمل عليه من رؤى وأفكار واستنتاجات يمكن الاتفاق أو الاختلاف حول بعضها – كما أسلفنا – يفتح أبواباً واسعة للنقاش، سواء لتأييد بعض ما جاء فيه أو لتصحيح ما قد يراه آخرون خطأ، وتلك فائدة كبرى رأينا أن نحيل إليها القارئ، مادام الهدف – في الأساس – سامياً، وبعيداً عن نظرية الخطأ والصواب، فإن مثل هذا الجهد الفكري جدير بإلقاء الضوء عليه، إذ لمؤلفه الأجر على كل حال.